الاثنين، 26 مارس 2012

الفصل العاشر: اجتماع في مغارة

كان الظلام قد غطى الطريق الوعر المؤدي الى مغارة تحيط بها الصخور من كل جانب تقريبا، وقد أخذ عدد من الملثمين اماكنهم حولها يراقبون بشكل خاص شارع عمّان من بعيد في منطقة تتوسط الطريق بين مدينة نابلس والجفتلك في الغور محاولين قدر الامكان تمييز السيارات والشاحنات العابرة.

وداخل المغارة التي كانت تضيئها شمعة بنور خافت، تحلق أربعة من المطاردين في دائرة وبيد احدهم راديو ترانسيستور بحجم اليد كان يبث نشرة اخبار سمع منها عمر لدى دخوله في تلك الليلة خبراً عن الاعداد لاعلان وحدوي قريب بين شطري اليمن، وآخر عن اتفاق أمريكي-سوفيتي على تدمير ثمانية في المائة من مخزون الأسلحة الكيماوية، وثالث عن اجتماعات بدأت بين مسؤولين في الالمانيتين حول خطوات للبدء بتوحيد العملة والاقتصاد تمهيدا لتوحيد الشطرين الشرقي والغربي من الدولة التي قسمتها الحرب العالمية الثانية.

ومن العراق خبر عن زيارة وفد من الكونجرس الامريكي في اليوم التالي بعد التوتر الذي احدثته تهديدات صدام بحرق نصف اسرائيل بالكيماوي المزدوج.

وكان وسط المطاردين فارس... رجل بلغ الاربعين، لكن ملامحه كانت توحي بانه ما زال من جيل الشباب: أسمر بملامح صارمة.. يلكز نتيجة إصابة في ساقه اثناء عملية لكنه لا يستعمل عصا.. وبنيته قوية.. وهو متزوج، وله ثلاثة اولاد وبنت أكبرهم فراس الذي بلغ من العمر 10 سنوات.

وقد عايش فارس هزيمة حزيران 1967، وقبل ان يمضي عام على الاحتلال، ضمه سجن نابلس المركزي مع مجموعة من نحو 30 فتى لم يبلغوا العشرين من أعمارهم بعد .. لكنهم شكلوا تنظيما عفوياً مقاوماً نشط بشكل خاص في مخيم بلاطة الذي انشيء كفلسطين مصغرة جنوب غرب المدينة من لاجئي مدن يافا وحيفا وكفرسابا وقاقون ومسكة ويازور وبيت دجن والطيرة واللد وطيرة دندن والطيبة وقلنسوة والرملة وعرب ابو كشك وابو شوشة والمجدل وكفر قاسم وبير السبع والعباسية والخيرية والخالصة وعكا وزكريا وكفر عانا والجماسين والحشاشين والقرعان، وعرفوا باسم "الكف الاسود".

ومع ان هذه الجماعة لم تكن مسلحة، وكانت تضم طلاباً معظمهم في المرحلة الاعدادية، الا انها ازعجت سلطات الاحتلال بطرقها البدائية في المقاومة قبل ان يمر العام الاول من احتلال الضفة الغربية.. كتوزيع المنشورات التي تحض على الاضرابات والتي كانت تختم بنصف حبة بطاطا محفور عليها اسم "الكف الاسود".. واخراج المظاهرات من مدرستي الذكور والاناث الاعداديتين، والتي غالبا ما كانت تشتبك مع قوات الاحتلال قبالة "دير بئر يعقوب" بعد ان يغلقوا الشارع بالاسلاك الشائكة والاطارات المحترقة لمنع الجنود الاسرائيليين من اقتحام الشارع نحوهم بالسيارات العسكرية، او غرس المسامير تحت اطارات حافلات شركة "ايجد" التي كانت تاتي لتنقل العمال فجر كل يوم من شارع القدس، او محاولات احراقها بقنابل المولوتوف.

وقد اتسعت هذه المجموعة قبل اعتقالها لتشمل طلابا آخرين من نابلس والقرى التابعة لها مثل روجيب وسالم وبورين وحوارة وبيتا وعصيرة الشمالية ومخيم عسكر..

والى جوار فارس، جلس اربعة قياديين آخرين من التنظيم وامامهم عمر..

وعندما سأله فارس ان كان فكر في السبب الذي جعلهم يستدعونه الى تلك المغارة على هذا النحو أدرك ان المهمة ستكون كبيرة هذه المرة، وكان عليه ان يصغي جيداُ لكل ما يقال، وان يكون على استعداد لتنفيذ ما سيطلب منه حتى لو تطلب الامر استشهاده.

فرد  قائلا:

·       كلا.. ولكني رهن الاشارة، ومستعد لكل شيء.

فاكمل فارس:

-       المهمة هذه المرة ستكون صعبة، تتطلب جرأة وتحملا وصبرا وذكاء. وقد اخترناك لاعتقادنا بانك قد تكون الأنسب، ولكننا سنمنحك الفرصة للتفكير فيها أيضاً.

ورد عمر:

·       وما المطلوب بالضبط؟

واردف فارس:

-       وصلتنا معلومات من معتقل عسقلان عن شبكة عملاء، والشك يدور حول من يرأسها.. وهو من أحد أقاربك.

ودارت عيني عمر في محجريها وهو يواصل الاستماع الى فارس:

-       ربما تكون المعلومات مضللة او بدافع الانتقام.. لا ندري بعد.. لكننا نريد التأكد أولاً من هذا الامر، وان صح ذلك، نريد الاستفادة منه لمصلحة التنظيم.

ورد عمر:

·       ومن هو ذلك القريب؟

وعلت الدهشة وجهه وهو يسمع الاسم:

-       شعبان

وشعبان هو ابن عم عمر.. ورغم ان زوجة فارس كانت قد ابلغته ذات مرة أنه غالباً ما يكون في شرفة منزله يتحدث بالهاتف عندما يكون أحد المطاردين في القرية، الا ان المعروف عن شعبان بين الجميع أنه شخصية وطنية، لا يتوانى عن تقديم الخدمات والمساعدة لمن يقصده.. كما انه نادراً ما كان يغيب عن مناسبة فرح او عزاء في أي بيت.. وكان احد الساعين لانشاء ناد اجتماعي للشباب في القرية بعد ان كبرت.. وكان البعض يرى في تكتمه عند الحديث عن التنظيم امراً خاصاً به، وبالسرية المطلوبة في العمل الوطني.

ورغم الذكاء والكتمان الذي يتميز به عمر بين اقرانه في التنظيم .. فانه لم يلاحظ ابداً أية حركة مشبوهة أو عمل مريب قام به شعبان أو اثار ادنى شك فيه لديه..

لكنه لا يستطيع التشكيك بما يقوله فارس أيضاً.. فطالما ان المعلومات وردت من المعتقل، فلا بد ان لهذه الحكاية بداية هناك..

كما ان فارس بالنسبة له قدوة في العمل النضالي.. وكثيرا ما كان يشبهه بـ"جيفارا غزة"، واضافة لذلك، فانه كان المسؤول المباشر عن عمله مع حسام في الوسط الطلابي، وكان يرى في العلاقة معه طريقا للوصول الى حلمه في ان يذكره التاريخ بطلا شجاعا.

وتدخل احد القياديين الاربعة قائلا:

-       لا نريد كشف الشبكة فقط، هدفنا اختراق "الشاباك" أيضاً.

وتدخل آخر قائلا:

-       ان ثبت فعلاً ان شعبان يدير شبكة للعملاء، فاننا نريدك ان تنفذ اليها من خلاله، وان تلازمه وتتعاون معه لصالح التنظيم.

وكان عمر صامتا يستمع، بينما عاد فارس للحديث:

-       ولكن قبل ذلك، يجب ان تعرف بأن ثمن هذه التضحية قد يكون باهظاً.. فقد أعددنا خطة، وهي صعبة تحمل مخاطر غير متوقعة..

ولحظتها أجاب عمر في علامة على الموافقة:

·       وما هي الخطة؟

ورد فارس:

-       بداية، سنصدر بيانا بفصلك من التنظيم دون توضيح السبب، لكننا سنثير الاشاعات والشبهات حولك.. وقد يصطدم شباب التنظيم بك حتى تصبح صيداً لشعبان، فان تأكدت المعلومات، تواصل العمل معه، ودعه يجنّدك.. ولكن عليك التصرف بالحكمة في اللحظة الاخيرة قبل ان تقع في الشراك التي سينصبها لك على الطريق.. وفي حالات الضرورة القصوى، تتواصل معنا عن طريق البقال أبويوسف.

وبعد لحظة من التفكير رد عمر:

·       وماذا لو انكشف امري امام شعبان وعرف بذلك؟ لا تنس انه قريبي، والمسألة حساسة من جانبها الوطني.

واجابه فارس:

-       ستكون قائد المهمة، وليس غيرك من سينفذها معك.. فان كشفت، فانت السبب. وانت من يتحمل المسؤولية عن فشلك فيها.

وفي لحظة بدا لعمر ان ما يطلب منه ليس بقليل.. وعندما فكر بعمق أاكبر، بدت المهمة محفوفة بمخاطر كبيرة ليس أقلها أن سمعته ستتشوه وهو الذي ظل طوال حياته محافظاً على سمعة حميدة، وليس آخرها ان يمضي سنوات شبابه القادمة في معتقل وهو الذي يطمح ان يكون طبيباً او مهندساً بعد عدة سنوات..

وولاء ؟؟

هذا الحب الذي انفجر صباحاً بعد ان كافح طويلاً من أجل الوصول الى قلبها ولم ينعم بعد حتى بفرحه من انها تبادله نفس المشاعر.. كيف ستنقلب الامور معها بهذه السرعة المفاجئة؟

لكن شيئا آخر كان أقوى من تفكيره بالحب دفعه لمقاطعة فارس عندما منحه فرصة للتفكير او الاعتذار عن المهمة، فرد من دون تفكير مسبق:

  • بل سأفعل ولو كلفني الأمر حياتي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق