الاثنين، 26 مارس 2012

الفصل السادس: تداعيات ذكرى

مرت ساعات النهار طويلة على غسان وهو يستذكر بعدها حتى ساعة متاخرة من الليل اخاه الدكتور جليل الذي كان يكبره بسبع سنوات والذي اشتهر صيته بعالم الذرة النابغ، والذي كان يرى قاتله امامه دون السماح له بالاقتراب منه عملا بقواعد التنظيم.

فما ان انتهى نعيم من كشف اللغز الذي مضى عليه ستة اعوام، حتى ارتسمت في ذهنه صورة شقيقه وزوجته التي ادرك ليلتها سبب استعجالها وعدم انتظارها الكثير من الوقت بعد العثور على جثته كي تعود الى امريكا وتنقطع كل الصلات بها الى الابد.

ورغم ان غسان لا يدخن في العادة ولا يطيق رائحة السجائر التي تنتشر اجبارياً في كل ارجاء المعتقل.. الا انه احرق في تلك الليلة عددا من تلك السجائر التي يخزنها اياد فيما الذكريات كانت تتداعى تباعا في ذهنه..

فلم يكن احد قد تخيل السيناريو الذي كشفه نعيم من قبل.. ولا حتى غسان نفسه الذي غالبا ما كان يربط اي عملية اعتداء او اغتيال لشخصية مهمة او نشطة بدور ما للمخابرات الاسرائيلية فيها.

كما ان احدا لم يشك في زوجته التي لم يعترض طريق عودتها احد بعد دفنه بأسبوعين فقط من دون ان تثار اية شبهة حولها.

ويتذكر غسان مرة جمعت ثلاثتهم..

كان غسان يزور اخاه الدكتور جليل في يوم عطلة .. وكان الوقت قبل المغيب وهم جالسون في الشرفة يحتسون الشاي.. وفي الأفق امامهم كان جبل عيبال - المعروف ايضا باسم الجبل الشمالي- يبدو مثل لوحة بانورامية عريضة من المباني المشيدة من حجارة مقطعة ومنقوشة من الصخور بدءا من المستشفى الوطني يمينا، وانتهاء من ناحية اليسار بوادي التفاح الذي يسير في خانق عميق ليتصل بوادي الزومر في منطقة طولكرم غربا ووادي الباذان شمال شرق المدينة، ويتزود بمياه الينابيع ليصب في وادي الفارعة الذي يرفد نهر الأردن.

يومها اشار الدكتور جليل باصبعه نحو مخيم عين بيت الماء (او مخيم رقم 1 كما تسميه وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين) في اسفل الجبل المقابل وقال لزوجته:

-       في بيت هناك كنت مع غسان عندما احتلت نابلس في السابع من حزيران عام 1967.

ثم التفت نحو غسان وهو يسأله مستذكرا:

-       هل تذكر يا غسان؟

ورد غسان:

·       وكيف انسى ذلك اليوم.. كان يوم اربعاء، وكان ثالث ايام الحرب.. ورغم ان عمري لم يتجاوز السنوات الست.. لكني ما زلت اتذكر دوي الانفجارات الذي لم ينقطع في وادي التفاح إلا بعد أن اغارت طائرتان إسرائيليتان على المكان في ذلك المساء.

وتدخل الدكتور جليل لوصف بعض التفاصيل مما جرى في ذلك اليوم قبل ان ينظر نحو زوجته قائلا:

·       في اليوم التالي قررت ان اكون شيئا مهما..

ورمقه غسان يومها بنظرة تستوضح ما كان يعنيه، فأكمل:

·       في الاسبوع التالي، حينما أذاع راديو القاهرة بيان الرئيس جمال عبدالناصر بعد الهزيمة، وإعلانه تحمل كامل المسؤولية، وقراره بالتنحي، عرفت معنى ان تهزم دولة.. لكني عرفت ايضا ان انسانا واحداً فقط يمكنه ان يهزم جيشا حتى لو قضى مدافعا عن نفسه.

وادرك غسان على الفور أن اخاه كان يعني البطل الاسطوري ابوهاشم..

وابو هاشم.. هو الاسم الذي اطلقه النابلسيون على المقدم في الجيش الاردني صالح عبدالله شويعر، وهو من بني شمر، وقد اقاموا له في موقع استشهاده ضريحا عرّفوه بهذا اللقب نسبة للهاشميين لانهم ما كانوا يعرفون اسمه الحقيقي يومها.

ففي ذلك اليوم تصدى ابوهاشم وحيدا للواء اسرائيلي مدرع كان قادما من غرب المدينة لملاقاة لواء مدرع آخر دخل قبله من الشرق عن طريق عصيرة الشمالية عبر غور الجفتلك ووادي الباذان قادما من مدينة بيسان.

وقد ظل ابو هاشم يقاتل لاكثر من اربع ساعات متواصلة انتهت بغارة من الطائرتين الحربيتين اللتين ظلتا تقصفان الموقع لنصف ساعة متواصلة قبل ان يهدأ صوت المدافع ودوي الانفجارات التي كانت مسموعة في كل ارجاء المدينة.

وحسب الرواية التي تناقلها سكان المدينة، فقد تصدى ابوهاشم للواء الاسرائيلي اولا بمدفع دبابته حتى نفدت منه الذخيرة.. ثم راح يصادم فيها الدبابات الغازية حتى  هلكت، وواصل القتال ببندقيته، ثم بمسدسه .. واخيرا ترجل من الدبابة لمقاتلة الجنود الغازين باللكمات الى ان تمكن منه احدهم برصاصة اصابته كما يقال في رأسه.

وفي الرواية نفسها ان وزير الحرب الصهيوني حينها موشيه ديان حضر الى المكان بمروحية، وادى التحية العسكرية لأبي هاشم مثلما فعل من قبله الجنود الذين حاربهم قبل ان يدفنوه، لكنه رفض بناء ضريح يليق بما سطره من بطولة وشجاعة خوفا من تحوله الى مزار وطني.

وعندما توجه الضابط الذي اعلن عن نفسه حاكما عسكريا للمدينة الى مبنى البلدية صبيحة اليوم التالي من احتلال المدينة طلب من رئيسها وأعضاء مجلسها الذين احضروا بسيارات مطافىء حمراء اللون ترفرف عليها رايات بيضاء تحت حراسة سيارات عسكرية إسرائيلية نقل الشهداء ودفنهم على الفور قائلا "ان أكثريتهم عند مداخل المدينة غربا وشرقا".

وقبل ان ينهي الاجتماع قال "أريد أن أقول لكم شيئا لا علاقة لكم به، يوم امس غرب المدينة وعند الظهر تعرضت قواتنا لمقاومة غير عادية، مدرعة للجيش الأردني تصدت لنا وقاتلت بشراسة، وفي النهاية تمكنا منها ودمرناها وقتل قائدها، احترمه جنودنا فأعدوا له قبرا دفن فيه بمراسم تليق بقائد شجاع وأدوا له التحية العسكرية".

وعندما ذهبوا لمكان القبر بعد الاستجابة لطلبهم، قرأوا الفاتحة، ووضعوا من حوله بعض الأحجار لتحديد مكانه، وبعد ذلك تم بناء ضريح على عجل من الاسمنت كتبوا على ضريحه "قبر الشهيد ابوهاشم".

وقد لاحظ غسان يومها ان قصة ذلك البطل الاسطوري لم تحرك ساكنا عند زوجة اخيه وهو يرويها كجزء من تجربته الشخصية وتاريخ المدينة، بل والتي كانت سببا وراء قراره دراسة الفيزياء النووية في امريكا .. ثم زواجهما هناك.. فقد كانت تصغي فقط وهي تحتسي الشاي، وفي احيان اخرى كانت تهز رأسها علامة على المتابعة في الاستماع.

لكنها عندما انهى حديثه علقت بجملة اثارت استغراب غسان على وجه التحديد، وهي الجملة التي ظلت عالقة في ذهنه من ذلك اللقاء حتى تلك الليلة التي كشف فيها نعيم سر اختفاء اخيه واغتياله بمساعدتها.

فيومها قالت:

-       الاسرائيليون ليسوا متوحشين كما تقولون.. انهم حضاريون.. ويحترمون اعداءهم ايضا.

وغسان الذي لم يسقط عينيه عن نعيم طوال الوقت في تلك الليلة ايضا ، لم يختبر يوما احترام الاسرائيليين لاي شيء غير اسرائيلي او يهودي بالتحديد.. فحتى ذلك اليوم كانت الانتفاضة على ظلمهم ما زالت في اوجها .. وصور تكسير عظام الشبان بالحجارة على سفح جبل عراق التايه المقابل لقرية بلاطة من الجنود الاسرائيليين كانت لا تزال تهز العالم من صورها المتكررة على الفضائيات وفي مقدمة نشرات الاخبار.. وكأن زوجة اخيه لم تكن لترى شيئا من ذلك كله يومها وهي زوجة لعالم فلسطيني.

-       والثلاثة الاخرون: عبدالسلام وحاتم وعبد القادر.. من هم؟


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق