الاثنين، 26 مارس 2012

الفصل الخامس والعشرون: دموع الندم


لم يكن وقع ما جرى سهلاً على ولاء عندما وصل مسامعها ما روجه شعبان عن عمالة عمر وسعيه لتجنيد آخرين من القرية.. فقد اصابتها الصدمة مجدداً وهي تتصور ان هذا اللغز الكبير الذي اسمه عمر ربما كان يحاول الوصول اليها ايضاً عن طريق الحب لايقاعها فيما هربت منه من منزل والديها.

لكن ما خفف الصدمة التي كادت ان تطرحها ارضا من شدتها تلك البشاشة التي علت محيا خالها حسام وهو يقول حين تحلق الجميع في دائرة حول مائدة العشاء على الارض:

·       والله عمر بطل.. عملها

وانتظرت ولاء احداً من اخوالها أو أي أحد من الجالسين ان يسأل عما فعله عمر، لكن احداً منهم لم يفعل، فبادرت هي ملهوفة للسؤال:

-       وماذا فعل؟

ورد حسام:

·       اخترق "الشاباك" وكشف شبكة عملاء.. وقد لا تصدقون لو تعرفون من يرأسها.

لحظتها نظر اليه اخيه الاكبر سائلاً:

-       من؟

وتحولت كل عيون الجالسين نحو حسام بينما كادت اللقمة ان تسقط من يد ولاء من شدة الدهشة:

·       شعبان

ورد اكثر من صوت في وقت واحد باستغراب:

-       شعبان؟

واكد حسام ذلك قائلاً:

·       نعم .. شعبان ومعه مجموعة عملاء من داخل القرية وخارجها.. والمفاجأة الأخرى ان من بينهم ايضاً سعيد.

وكرر اخوته الاكبر السؤال باستغراب:

-       سعيد؟

واكمل حسام:

·       نعم .. والمطاردين خطفوا شعبان اليوم.. وأظنه يعترف الآن بينهم في أحد الجبال.

وحاولت ولاء ان تسأل عن مصير عمر.. لكن السؤال توقف في حلقها فيما كان صدرها منشرحاً من سماع ما كان يرويه خالها حسام .. فها ان اللغز انحل اخيراَ.. وادركت انها لم تخطيء الاختيار ابداً.. فقد خمنت بفيض مشاعرها الجارف نحوه منذ البداية ان هناك شيئاً ما خطأ.. وها هي تتأكد من كل ذلك اليوم.. وكانت تتمنى لو كان عمر امامها في تلك اللحظة كي يؤنبها بقسوة المحبين وهي تذرف دموع الندم امامه راكعة على ركبتيها.

ومثل تلك الدموع كانت تسيل في تلك الليلة في مكان آخر من عيون نعيم..

ففي غرفته وعلى طاولة صغيرة، كانت تلك الدموع تبلل اوراقاً كان يكتبها مشروعاً لرواية عن "توبة عميل".. وكان قد انجز منها حتى ذلك الوقت عدة فصول مهد فيها للخاتمة البطولية التي بدأ رسمها قبيل خروجه من معتقل عسقلان.. خاتمة كان يريد ان تنتهي آخر كلمة منها في اليوم الذي يختمها فيه.

وفي الفصل الذي كان يكتبه في تلك الليلة كان نعيم يحاول اكتشاف نفسه.. ماذا لو لم يكن قد ولد في تلك الارض؟ وماذا لو ولد في زمن آخر؟ وماذا لو لم يكن هناك احتلال؟

واي احتلال؟!

فقد ابصر النور على أحذية الجنود وهم يفرطون في مداهمة البيوت.. ونسفها.. وطرد من فيها.. حتى صارت النساء والاطفال ينامون عند الاقارب.. وصار الشباب ينامون اما في المساجد او عند اصدقائهم.. وعلى حافلات "ايجد" وهي تنقل العمال كالسردين صباح مساء ليعملوا كالعبيد في مصانع "بيت يام" و"حولون" و"بتاح تكفا" و"رمات جان" بأبخس الاجور.. وعلى قوائم الاعتقالات التي لم يسلم منها بيت واحد.. واهانة الكرامات عند الحواجز والمعابر حيث يسلب الحق في الحرية والحركة والتنقل.. ويبصق في الطعام.. وتتوقف حركة طابور طويل من السيارات تحت قيظ الشمس في الاغوار باشارة من حذاء جندي يتفيأ متمددا في الظل .. ويعرى الناس رجالا ونساء واطفالا لا فرق بحجة الامن..

وبحجة الامن سرقوا اثواب النساء الفلسطينات.. وسرقوا "الحمص" و"الفلافل".. ونبشوا الارض ليسرقوا منها التاريخ.. وحفروا باطنها كي يسرقوا منها الماء ويحرمونه على اصحابه.. وراحوا يصوبون الرصاص للتدريب على خزانات المياه على اسطح المنازل كي يحرموا اصحابها من شربة ماء.. وحطموا اشجار الزيتون بالجرافات .. وداست جنازير آلياتهم العسكرية على المزارع والبيوت البلاستيكية.. وحرقوا محاصيل القمح والبرسيم.. واطلقوا الكلاب على النساء.. وحطموا أذرع وسيقان الشبان بالحجارة.. واشبعوهم ضربا بالبنادق وهم عراة في الشوارع على مرأى الجميع..

احتلال فرض على الناس العبودية والمهانة والقبول باسلوبه في تشكيل الحياة اليومية.. حتى فرق بين الزوج وزوجته.. وكرس النزعات الذاتية على حساب الروابط العائلية والوطنية والقومية.. و نشر المخدرات والرذيلة والشذوذ والامراض.. وخلق التمرد على الاسرة ونشر افكاره الهدامة..

وقتل الناس أيضاً.. مطادرين كانوا ام مدنيين .. اطفالاً.. كباراً.. نساءً.. رجالاً.. لا فرق.. وبالصواريخ غالباً . فهي اسرع فتكاً.. واشد تدميراً.. وأكثر دقة في اصابة الأهداف من سماء لا تغيب عنها الطائرات و"الزنانات"..

قتل من دون قيود ولا تمييز.. وبقواعد اشتباك متحررة من كل القيم والأخلاق والأعراف.. بدءاَ من تدمير الاحياء على ساكنيها.. مرورا بتدمير كل ما يدب على الارض وتحتها من حياة. ولا تنتهي فصوله عند استخدام الاسلحة المحرمة دولياً كالفسفور الابيض والقنابل العنقودية وذخائر اليورانيوم المنضب والقنابل التي تصيب بالعمى او التي تشل الاطراف او التي تخلق حالة من حالات الصرع او الصدمة المروعة.

وفي كل ذلك كان نعيم شريكاً..

كان العين التي لا تنام لارضاء ابوالنمر.. ومن اجل حفنة من المال يدسها في جيبه كلما آذى فلسطينيا آخر..

وابوالنمر لم يولد اصلا في فلسطين.. فقد جاء مهاجرا مع اسرته من بولندا بعد حرب حزيران.. وهو لا يعرف ان كل يافطة عبرية في شارع.. وكل اسم لمدينة وبلدة بالعبرية لم يكن له اي تاريخ يزيد عن عمره منذ ان ولد هناك..

وكتب يختم ذلك الفصل من روايته العتيدة:

-       يا الله .. ما الذي فعلته بشعبي؟؟




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق