الاثنين، 26 مارس 2012

الفصل الثاني- "عصفور" في عسقلان

بعيداً عن القرية، وفي معتقل عسقلان جنوبي مدينة المجدل.. كان "سعد الخبايا" قد أظهر أفعى أخرى في ذلك اليوم.

فعندما عاد نعيم من "فورة" المساء محاطاً بعدد من الإسرى منعوا عنه حتى مجرد الإلتفات يميناً أو يساراً، لم يكن هو نفسه نعيم الذي خرج معهم قبل ساعتين.. وبحلول الليل، وعندما كان عمر مستغرقاً في البحث عن تفسير لهروب ولاء وهو يتابع نشرة المساء في منزله في القرية، لم يكن كل ما مر من أحداث في ذلك اليوم في المعتقل يعادل هول الصدمة التي أحدثتها المفاجأة لموجه القسم الأمني غسان وبقية المعتقلين.

ومعتقل عسقلان المكون من طابقين، والواقع على بعد 15 كيلومترا من غزة، عدا عن أنه واحد من أقدم المعتقلات التي أقامتها قوات الإنتداب البريطاني عام 1936، فإن اكثر ما يميزه هو سقف ساحته المنفتح على سماوات الأمل في الحرية.. وشجرة النخل التي إخترقت إرتفاع هذا السقف المفتوح من وسط ساحته رمزاً للصمود وتحدي عاديات الزمن الذي يمر بطيئاً على المعتقلين، وحيث كل أسير فيه موضوع تحت المراقبة بالعين المجردة والكاميرات على مدار الساعة.

ومنذ نقله إلى هذا المعتقل، إعتاد غسان، إبن الحادية والثلاثين، والقيادي المعتقل بحكمين مؤبدين، أن يسند ظهره إلى تلك النخلة في كل يوم يخرج فيه المعتقلون "للفورة" متأملاً سوره الذي يرتفع بعلو ستة أمتار، والمحاط بأسلاك شائكة وأبراج مراقبة وكاميرات التصوير، وفي زنازينه الرطبة االمزدحمة دائماً التي لا تدخلها أشعة الشمس، والحرارة القاسية التي لا تطاق في أقسام المحكومين الخمسة المسلسلة أبجديا عدا الخامس منها الذي يعرف باسم "حيط"، والقسمين 11 و12 الخاصين بالموقوفين.

والى قسم "حيط" كان نعيم، إبن الرابعة والعشرين عاما، والذي تنقل بين عدة معتقلات قد نقل قبل ثلاثة اسابيع من معتقل الخليل مع دفعة من الموقوفين جاء معظمهم في "البوسطة" من معتقل جنيد في نابلس، وكان من بينهم من نقل "كبسولة" في احشائه تثير شكوكاً حول نعيم، وبأنه قد يكون "عصفورا"، وهي الصفة التي ينعت بها عملاء المخابرات الاسرائيلية الذين يزرعون في السجون، وذلك بالرغم مما كان يظهره من تطرف في الفكر القومي ووحدوية في السلوك الوطني في كل معتقل تنقل فيه من قبل.

وفي ذلك المساء تأكدت الشكوك أخيراً في نعيم عندما توجه أحد الاسرى الذين كلفوا بمراقبته إلى غسان في مكانه تحت الشجرة ليضع في يده الدليل الحاسم.

فقد اعتاد نعيم منذ أن قدم إلى المعتقل أن يتجه فوراً بعد الخروج الى "الفورة" لإحضار كرة سلة يلهو بها مع من يرافقه من الأسرى.. وقد لاحظ الذين كلفوا بمراقبته من قبل غسان، أنه كثيرا ما كان يقذف الكرة لتعلو من فوق السور كي تستقر خلفه .. ثم تعاد مرة أخرى من وراء السور من قبل شرطي الحراسة غير المرئي في الطرف الآخر.

وفي ذلك المساء، وقبل أن يهم نعيم بقذف الكرة، قفز أحدهم أمامه لينتزع منه الكرة وثبتها بكلتا يديه.. وتأكد الشك بوجود ورقة صغيرة كانت ملفوفة بحجم ثقب المنفاخ دسها نعيم في ذلك الثقب.. وهي الورقة نفسها التي سلمها لغسان تحت النخلة، بينما كان نعيم ما زال مشدوهاً وهو واقف كالمشلول يتابع من مكانه ما كان يجري بينهما، وقد علت وجهه ملامح وجوم وصدمة من إنكشاف أمره أخيراً.

وبمجرد دخوله مثل فأر مذعور إلى داخل القسم وهو يفكر في طريقه تخرجه من المأزق الذي وجد نفسه فيه، إتجه فورا إلى الحمام، ووضع إصبعا في أنفه ثم جرحه بأحد أظفاره بقوة حتى ينزف منه الدم غزيراَ ويكون حجته في الهرب من الغرفة، لكنه قبل ان يخرج من الحمام لطلب نقله الى العيادة الطبية كان أحد الاسرى من أقوياء البنية قد لحق به ليسدد له على الفور لكمة قوية أوقعته في زاوية الحمام، ثم طلب منه البقاء في مكانه وألا يغادره حتى المساء، محذرا اياه من أن اثنين من المعتقلين سيحيطان به وقت "العد"، وأنهما جاهزان "لتشطيب" وجهه بشفرات الحلاقة – وهي علامة العار التي تميز العملاء الى الابد- إن بدرت منه أية حركة أو حاول الهرب.

وحسب الأوامر.. وقف نعيم في طابور "العد" مستسلماً بشكل طبيعي بين بقية المعتقلين.. لم يلتفت لا يميناً ولا يساراً.. ولم يزم شفتيه.. أو يرفع حاجبيه، أو يحرك إحدى يديه أو رجليه.. بل لم يحاول حتى أن يبدي أية اشارة تعني أنه يطلب النجدة من المأزق الذي وقع فيه.. ومع ذلك كانت عيونه تشع برعب خفي كان يهز كل أركانه من الداخل.. رعب سرعان ما أنفجر مرةً واحدةً فور خروج الجنود وإغلاقهم باب القسم وذلك عندما خر راكعاً أمام غسان وهو يقول بصوت مذعور:

-       أنا الذي قتلته..

ثم انخرط في بكاءٍ مريرٍ وهو يطلب الصفح مردداً بنبرات مخنوقة أكثر من مرة:

-       إغفر لي.. سامحني.. أرجوك..

كان المشهد مؤثراً جعل بقية المعتقلين في الغرفة، وبينهم إياد الذي كان يعد صناديق كرتونية لإستكمال بناء مجسم لبيته في القرية التي يسكنها أيضاً مع عمر، يحولون عيونهم جميعاً نحو نعيم وهو ما زال راكعاً امام غسان بإنتظار أن يسمعوا بقية هذا الإعتراف الفوري الذي جاء مباغتاً، ومعرفة إسم القتيل.

وبهدوء رد عليه غسان الذي أخذته المفاجأة والدهشة ايضاً من سرعة إنهيار نعيم بهذا الشكل سائلاً:

-       قتلت من؟

وسادت لحظة من الترقب والرهبة شعر الجميع بأنها مرت كالمخاض الصعب على نعيم الذي كان ما زال مطأطئاً رأسه نحو الارض قبل ان يفتح شفتيه:

·       أخوك.. انا من قتل أخاك؟

وعلا الوجوم وجه غسان وهو يطالعه بعيون فضحت الرعشة التي سرت في جسمه وهو يعاود السؤال مرتجفاً وخائفاً من أن يسمع ما كان يريد أن يسمعه منذ زمن طويل:

-       أخي من؟

لحظتها رفع نعيم رأسه نحو غسان وهو يمسح بيدين مرتعشتين دموعاً غزيرة عكست شعوره الخانق بالندم، وأفصح:

·       أخوك.. الدكتور جليل.

وقبل أن تبدر اية حركة أخرى من غسان الذي إنتابته نوبة من هياج وصرع مفاجىء، هرع بقية الأسرى نحوه للإمساك به وهو يحاول التملص منهم .. أما إياد فقد أمسك بنعيم الذي تلون وجهه بالاصفر من الخوف في تلك اللحظة ليبعده عن غسان، فيما طلب أعضاء من التنظيم وفقاً للمتعارف عليه في مثل هذه الاحوال وقف التحقيق فوراً ليتولاه مسؤول آخر غير غسان كي لا تتحول هذه المسألة الوطنية إلى موضوع شخصي أو عائلي.

لكن غسان الذي نجح عدد من المعتقلين في النهاية من السيطرة على نوبة الانفعال التي تلبسته، وإعادته إلى "برشه" أسند ظهره إلى الحائط والدموع ما زالت تطفر من عينيه، ورعشة شديدة ظلت تهزه وهو ينظر إلى نعيم بحقد ظاهر يعكس رغبة ملحة في إفتراسه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق